مقال د. محمد محسوب التي منعت من النشر في اخبار اليوم : الديموقراطية المشيطنة والأخرى المعلبة

مقالة د. محمد محسوب التي لم تُنشر اليوم بأخبار اليوم
‎Mohamed Mahsoob - محمد محسوب‎
الديموقراطية المشيطنة والأخرى المعلبة

كثيرون هم من لم يفرق معهم أن يكون رئيس الدولة من الإسلاميين أو من اليساريين أو من غيرهما ، إذا القضية بالنسبة لهم تتعلق بالديموقراطية لا بالأيديولوجية ؛ والديموقراطية بالنسبة لهم هي ضمان الانتقال السلس للسلطة من مؤسسات منتخبة إلى أخرى منتخبة عبر آليات منطقية وموضوعية وموثوقة. واختيار هؤلاء للديموقراطية إنما ينبع من حقيقة أن كافة الحقوق الأساسية للمواطن لا يمكن كفالتها إلا عبر نظام ديموقراطي ، ولا يمكن التمتع بقيمة الحياة وبمعنى الحرية إلا في مثل هذا النظام ؛ ولذلك فإن هؤلاء يمكنهم أن يقبلوا حكومة لا يحبون أدائها ولا يبتعلون أشخاصها لمجرد أنهم يعشقون الديموقراطية وآلياتها. وغيرهم آخرون يرغبون أن يبنوا نظاما سياسيا على أساس عواطفهم ، فيحكم من يحبون ويُقصى من يكرهون ؛ وللوصول لهذا المعنى فإنهم يقبلون التنازل عن حق الاختيار ليعيشوا في متعة قهر غيرهم ، ويتنازلون عن حق التعبير ليعيش من يكرهونه في إطار التوجيه ، ويهدرون نتائج الانتخاب ليبقى عداهم خارج القدرة على المشاركة أو التأثير.
قضيتنا واضحة وبسيطة ، فإما أن تدافع عن حقك وحق غيرك في الاختيار والتعبير وإما أن تُسقط حق من لا تحب في الاختيار ، ومعها سيسقط حقك أنت أيضا ؛ لأن من يملك الفرض هو من يمتلك قوة القهر وبالتأكيد لا أنت ولا أنا نملك تلك القدرة. وغير صحيح أن من يرفض إعلان 3 يوليو ويعتبره خروجا عن الشرعية هم فقط مريدو التيار الإسلامي أو جماعة الإخوان المسلمين ، وإنما ملايين ممن حلموا أنه خلال حياتهم سيرون دولة ديموقراطية ، وسيتمتع أبناؤهما بنسيم الحرية ، وأن الجميع سيشارك في تحديد من يقود البلاد في انتخابات عادلة ونزيهة ، وينشغل هو بعمله وحياته مطمئنا إلى أنه يشارك فتُتعتبر مشاركته ، ويُصوت فيُحترم تصويته ولا يحتاج هو حتى للانشغال بمشاهدة نشرة الأخبار لأنه يعلم أنه يكفيه أن يدير حياته بطريقة بسيطة وعادية ، فيركب المواصلات العامة ويذهب لعمله ويحمل ابنه للمدرسة ويسعى لتلقي العلاج في مستشفى ، فإذا تحمّل معاناة دائمة وهو يقوم بأي شئ من ذلك في يومه ، فإنه يتوقع أن يذهب في دور الانتخاب التالي ليغير الرئيس أو ليبدل الحكومة ، ويختار غيرها لتحسن من أحواله وتزيد من شعوره بالسعادة أو على الأقل تقلل من إحساسه بالمعاناة.
تلك هي الحياة العادية التي يشعر بها شخص عادي في ديموقراطية عادية ، لأن الديموقراطية بالنسبة له لا تتعلق لا بالأيدولوجيا ولا بعواطف الحب ولا بمشاعر الكراهية ، وإنما هي نمط طبيعي للحياة الطبيعية. وعلى النقيض من ذلك فإن الدكتاتورية نموذج للحياة التي تتواصل فيها المعاناة منذ لحظة الاستيقاظ في الصباح الباكر حتى لحظة العودة للمنزل ومكابدة التفكر في اليوم التالي باحتياجات الأسرة والقلق على الأبناء ومحاولة تجنيبهم الخوض في الشأن العام وأمور السياسة ، والكبت الذاتي للأراء ، وعدم التوقع للتغيير لغياب وسائله ، وعدم الحرص على الشكوى لأنها لا قيمة لها ، وعدم البحث عن الحقوق لأنه مجهود عبثي ، والامتناع عن الذهاب لصندوق انتخاب لأنه وهم غير حقيقي ، ونسيان مفهوم المشاركة في صناعة الحكم أو الاعتراض على طريقته أو الحلم بتغييره.

أمام هذه الحقيقة الواضحة ، فإن كثيرين هم المندهشون مما يجري من شيطنة للديموقراطية فلا يُطمئن إليها لأنها قد تأتي بمن لا ترغب ؛ ولا تُقبل نتائج انتخاباتها لأنها تمثل طريقا لخروج الشياطين من باطن الأرض ومن شقوق السماء ؛ ومن ثم فمن المُبرر الانقلاب عليها ووضعها في غرفة مغلقة عليها سبعة أقفال حتى لا تعود لحياتنا. وفي المقابل نقوم بتجهيز ديموقراطية معملية ومروضة ، لا تؤدي إلا إلى نتائج محسوبة مسبقا ، ولا يمكنها أن تخالف توقعاتنا ، وتُقصي بطريق الطرد الذاتي كل من لا نحمل لهم عاطفة ودّ أو من لا تتماشى أفكارهم مع أيديولوجيتنا. تلك الديموقراطيات المصنعة سابقا في معامل النخبة جرى تجربتها وتطبيقها بنجاح باهر في كل الدكتاتوريات الكبرى في العالم منذ النازية الألمانية إلى كل دكتاتوريات العالم العربي وجمهوريات المانجو والموز في أمريكا اللاتينية والجنوبية وأدغال إفريقيا ومصر حتى 25 يناير 2011.

لكن لحظ هؤلاء فإن كل هذه الديموقراطيات المعلبة أو الدكتاتوريات المنمقة لم تأت لا بحرية ولا بحقوق شخصية ولا بتطور اجتماعي ولا بنهوض اقتصادي ولا باستقلال للإرادة الوطنية ، لأنها أشبه بالطعام المعلب قليل الفيتامينات يملأ البطن لكنه لا يحوي سعرات حرارية فيثقل العقل ويهدر ملكات الجسد. ولا سبيل سوى لنا سوى أن نقبل الديموقراطية المشيطنة التي قد تأتي بمن نتوقعه أو لا نتوقعه أو أن نبقى في المعلبات ننتقل من رفٍ إلى رف ومن كفٍ إلى كف؛ بشرط أن تكف نخبتنا عن الحديث عن قيم الديموقراطية أو الاقتداء بالغرب ، إلا إذا كان المقصود هو السير على مهل بجادة الشانزليزيه وإرسال كروت معايدة بمناسبة عيد الثورة الفرنسية إلى أصدقائنا في مصر وهم يحتفلون بعيد إسقاط ثورة يناير.

أ.د. محمد محسوب
أخبار اليوم 27/7/2013

رابط المقال على الفيس بوك


ميديا واخبار العرب
زوروا موقعنا الجديد لكل الفيديوهات - رياضية سياسية دينية وثائقة

رجــاء اترك تعليقا عن رايك فيما قرأت او شاهدت Facebook Comments تعليقات الفيس بوك




0 comments

ضع تعليق

رجاء اترك تعليقك على ما قرأت

Copyright 2011 موقع الاخبار اخر خبر والاخبار العاجلة Designed by